الإعجاز التشريعي

من وجوه الإعجاز كذلك، الإعجاز التشريعي، فقد جاء القرآن هداية للناس أجمعين، واشتمل على أحكام تشريعية تكفل سعادة العباد في الدنيا والآخرة، وتفي باحتياجاتهم الزمانية والمكانية بخلاف ما عليه حال قوانين البشر وشرائعهم التي ظهر عجزها وما يزال عن معالجة متطلبات البشر، وثبت قصورها عن مسايرة الأوضاع المستجدة بين الحين والآخر، وصدق الله إذ يقول: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾[الإسراء: 9].

من مميزات التشريع الصحيح:
لعل من المناسب أن نقول أنه لا ينسب النجاح إلى أي تشريع أو قانون فيما وضع لأجله إلا إذا تحققت فيه أربعة عناصر، وإذا انعدم عنصر واحد من هذه العناصر لم يكن التشريع ناجحاً ولا فعالاً ومن مميزات التشريع الصحيح ما يلي:
1.                 أن يؤدي الغرض الذي وضع من أجله على أتم وجه.
2.                 أن يتم له ذلك في أقل زمن أو في زمن قياسي بالنسبة إلى أي نظرية أو قانون آخر.
3.                 أن يكون ذلك الغرض قد تحقق بأقل ما يمكن من التكاليف.
4.       أن لا تكون سلبياته أكثر من إيجابياته أو أن يكون قد حقق الغرض الذي وضع من أجله مع كون المفاسد أقل بكثير من المصالح المتحققة.

نجاح التشريع القرآني في مكافحة الجريمة في زمن يسير:
   لنتناول الميزة الثانية من مميزات التشريع الصحيح، وهي التي تختص بمسألة الزمن الذي يمكن أن تطبق فيه، وما يتمخض عنه من نتائج قد تحتاج إلى حصادها زمن طويل، وقد يكون هذا الزمن المستغرق سبباً رئيسياً في فشل هذا التشريع، فمن غير المعقول أن ننتظر عشرة أعوام ونحن نرى موت العديد من الناس بسبب ذلك القانون ثم ننتظر لأن مشرعه ينص على أن نجاحه يحتاج إلى تلك المدة المذكورة.
    إن أصدق ما يدل على نجاح هذا التشريع في مكافحة الجريمة هو ما تسفر عنه المقارنة بين حال الجريمة في المجتمع العربي قبل الإسلام وما أصبحت عليه بعده بزمن يسير، فعندما نزل القرآن الكريم على العرب كانت الجريمة فيهم هي الأصل، فكانت الأوثان تعبد، والأرحام تقطع، والأموال تنهب، والأرواح تزهق، والغزوات على قدم وساق، ولعل أوجز ما يعبر عن حالهم هو قول شاعرهم وحكيمهم زهير ابن أبي سلمى:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه         يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم.
        ولم يلبث نزول الوحي فيهم
سوى ثلاثاً وعشرين عاماً حتى تغيروا من حال إلى حال وأصبحت الجرائم فيهم استثناءاً بعد أن ظلت أصلاً لمئات السنين، فتحولت العداوة إلى أخوة فاقت أخوة النسب، وتحول الانتقام إلى تسامح، وانتشر الأمن في ربوعهم حتى سار الواحد منهم من شرق الجزيرة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، وتحقق فيهم قول القرآن الكريم: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾[آل عمران: 103] في حين أن القوانين الوضعية الحديثة التي يعتبرها أهلها أكثر القوانين إحكاماً في مجال مكافحة الجريمة لم تنجح بعد فيما وضعت من أجله وهو مكافحة الجريمة بعد مرور أكثر من قرنين على تاريخ وضعها، وهذا باعتراف أهلها الأصليين ومنهم قاضٍ في محكمة النقض الفرنسية الذي تعتبر بلاده قبلة العالم اليوم في مجال التشريع؛ خصوصاً مستعمراتها السابقة ومنها الجزائر.
قال السيد (موريس باتان) رئيس محكمة النقض الجزائية الفرنسية في افتتاح مؤتمر الوقاية من الإجرام المنعقد في باريس سنة 1959: أنا لست إلا قاضٍ في جهاز العدالة لم يخطر على بالي في أي وقت من الأوقات الاهتمام بأسس الوقاية من الإجرام لأن وظيفتي لم تكن هناك بل على العكس فقد كانت ولا تزال في العقاب لا في الحماية، كرست حياتي تبعاً لمهنتي القضائية الطويلة في محاربة المنحرفين حرباً سجالاً لا هوادة فيها، سلاحي الوحيد الذي وضعه القانون تحت تصرفي سلاح العقاب التقليدي، أوزع الأحكام القاسية والشديدة أحياناً على جيوش المجرمين والمتمردين ضد المجتمع، ساعياً ما أمكن إلى التوفيق بين نوعية العقاب وماهية الجريمة، وكنت أسأل نفسي دوماً كما كان الكثيرون من زملائي يتساءلون أيضاً عما إذا كان هذا السلاح قد أصبح في يدنا غير ذي شأن، وقد شعرت ولا أزال أشعر بكثير من الألم والمرارة بما كان يشعر به أولئك الذين تحدثنا الأساطير عنهم، أنهم كانوا يحاربون المسخ فكانوا كلما قطعوا رأساً من رؤوس هذا المسخ تنبت محله رؤوس ورؤوس، وقد تعاقبت السنوات وأنا ألاحظ بدهشة أن عدد المجرمين لا يزال مستقراً إن لم يصبح متزايداً، وأنه كلما كنا نرسل الكبار منهم إلى السجن أو إلى المنفى أو إلى المقصلة كان غيرهم يخلفهم في نفس الطريق بأعداد أكثر منهم(1).
منهج الإسلام في مكافحة الجريمة:
إن الأمن والاطمئنان يقابلان الفزع والخوف، وهذان الأخيران ثمرة الجريمة والفساد في الأرض، ولقد وعدنا الله سبحانه بأن الأمن لا يكون إلا بعد تحقق الإيمان والاهتداء بشرع الله فقال عز وجل: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾[الأنعام: 62], ولذلك نجد أن الأمن قد تحقق عندما تحقق الإيمان في المجتمع الذي أطاع الخالق، وعندما ترجم ذلك الإيمان إلى عمل في الجوارح واللسان، وهو المجتمع الذي قاده هادي الناس ومعلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، وبالمقابل نجد أن الجريمة وما رافقها من خوف وعدم اطمئنان كان نتيجة لذهاب الإيمان، فحل محله الكفر والعصيان والفسوق، وما ذلك إلا نتيجة حتمية لما عليه الناس اليوم من ابتعاد عن هدي خالقهم، وتحكيم القوانين الوضعية والائتمار بغير ما أمر الله ورسوله.
إن الجريمة سلوك شاذ، يهدد أمن الأفراد، واستقرار المجتمعات، ويقوض أركان الدول، ولذلك اهتمت المجتمعات قديماً وحديثاً بموضوع التصدي للجريمة ومكافحتها، ولم يخل مجتمع من آلية ما لمكافحة الجريمة، وقد تطورت هذه الآليات مع تطور المجتمعات، فبعد أن كانت مقصورة على العقاب وحده، وصلت في الدول والمجتمعات الحديثة إلى ثلاث، هي الوقاية والإصلاح (العلاج) والعقاب، وتكشف الإحصائيات الحديثة أن هذه الوسائل لم تحقق ما هو مطلوب منها، ولذلك انبرى الباحثون في علمي الإجرام والعقاب للبحث عن وسائل بديلة، ولا يزال البحث سارياً.
كما التأمت الجهود الدولية حول مؤتمرات علم الإجرام التي تنظمها هيئة الأمم المتحدة بصورة دورية ابتداءًا من عام 1951 ووصل عدد تلك المؤتمرات إلى عشرة، عقد آخرها في فيينا عام 2000م، هذا فضلاً عن المؤتمرات التي كانت تعقد تحت ما يسمى بالقومسيون، وقد توسع المشاركون كثيراً في تشخيص الأسباب، كما اختلفت نظرياتهم في سبل الكفاح والعلاج، وأنفقت بشأن ذلك أموال طائلة ولم يتغير شيء في أرصدة الدول المشاركة من نسب الجريمة، بل إن الجريمة في زيادة مطردة، وفي كل يوم يتخرج إلى المجتمع أو منه دفعات من المجرمين في مختلف صنوف الإجرام وأنواعه مما يدل على أن المناهج المتبعة في مكافحة الجريمة منيت بفشل ذريع, الأمر الذي يدعو إلى البحث عن مناهج بديلة إذا كانت هناك نية صادقة لمكافحة الجريمة.
والإسلام باعتباره دين صلاح وإصلاح قد تصدى للظاهرة الإجرامية حتى أصبح وقوع جريمة استثناء من الأصل العام في الاستقامة، وكثيراً ما كان المجرم يسعى بنفسه إلى إقامة الحد عليه أملاً في تطهير نفسه من الذنب الذي ارتكبه، وقد حدث ذلك كله في مجتمع كانت الجريمة فيه هي الأصل، خصوصاً جرائم القتل والسرقة والنهب والزنا، إلى جانب بقية الجرائم الأخرى وإلى بعض ذلك يشير قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾[آل عمران: 103] كما عبر عن ذلك جعفر ابن أبي طالب في خطبته أمام النجاشي عندما قال: (كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف)(2).
إن الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي، وتحويل الظاهرة الإجرامية من أصل إلى استثناء فيه دليل قاطع على أن آلياته في مكافحة الجريمة كانت ناجحة جداً، وما دام أن المجتمعات الإسلامية الحديثة لم يصل فيها مستوى الجريمة لأن يكون أصلاً كما كان عند العرب قبل الإسلام فإن منهج الإسلام هو الأقدر على مكافحتها بفعالية وبثمنٍ أقل، ولذلك فإن الكشف عن  هذا المنهج أصبح من قبيل الواجب الذي ينبغي أن يوضع موضع التنفيذ، خصوصاً مع استفحال الظاهرة الإجرامية وعجز المناهج والأساليب التي وضعت لمكافحتها.
وباستقراء نصوص الوحي المتعلقة بالموضوع والواردة في القرآن والسنة، وبالتأمل في أحداث السيرة النبوية وما صاحبها من أخبار، وما حكم به الخلفاء الراشدون، وما قاله بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين نجد أن منهج الإسلام في مكافحة الجريمة يقوم على أسلوبين رئيسيين، الأول هدفه منع وقوع الجريمة أصلاً ويسميه علماء الإجرام وقاية، أما الثاني فهو يأتي بعد وقوعها وهدفه منع تكرارها سواء من فاعلها أو من غيره ويسمى علاجاً أو عقاباً.
  
الأسلوب الوقائي:
من بدهيات الأمور أن يسعى صاحب السلطة أو من كان بيده الأمر والنهي لأن يحذر رعاياه من جملة أمور ويبين لهم مخاطرها وعواقب ارتكاب ما هو محظور منها، ثم أنه لا شك يضع لهم اللوائح التي تبين لهم بشكل تفصيلي لما يترتب عليه الوقوع في شيءٍ منها، وهذا ما يسمى بالأسلوب الوقائي، وقديماً قال العقلاء: الوقاية خير من العلاج.
ويشكل هذا الأسلوب سبقاً تشريعياً انفرد به الإسلام على مدى يصل إلى أكثر من عشرة قرون، ولم يلتفت المشرعون الغربيون إلى هذا الأسلوب إلا في القرنين الأخيرين بعد دراسات وبحوث طويلة يعود فيها الفضل إلى علماء الإجرام ومع ذلك فإن ما اقترحوه لا يزال عديم الفعالية بدليل ما يسجل من زيادات مطردة في نسب الإجرام، ثم إن هذا الأسلوب عندهم يشغل حيزاً صغيراً جداً إلى جانب الحيز الأكبر الذي يشغله العلاج والعقاب.
أما الإسلام فلا تقل مساحة حيز هذا الأسلوب عن مثيلتها في العلاج إن لم تزد عليها بقليل، ويمتد هذا الأسلوب بشكل متدرج من نفس الجاني المفترض إلى أن يصل إلى المجتمع كله وفق تسلسل منطقي لا يليق تقديم مرحلة أو تأخيرها عن مكانها، وهذا امتثالاً لسنة الله في التغيير والإصلاح التي تلخصها هذه الآية: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11] ويقوم هذا المنهج على المراحل التالية:
1-الإصلاح الذاتي أو تزكية النفس:
القلب السليم هو أداة تطبيق هذه المرحلة، وإن كان وجوده لازماً ليتميز به العاقل من غيره، إلا أن وجوده في مرحلة الإصلاح الذاتي من الأهمية بمكان، لأن الإنسان في هذه المرحلة بحاجة لأن يختار من بين القوانين والنصائح وما يملى عليه القرار المناسب، وهذا القرار وما يرافقه من عوامل وأسباب تكوّن جملة مبادئ يجعلها صاحب العقل السليم بديهيات لا يحيد عنها؛ لأن أول ما جاء به الإسلام هو تغيير النفوس من الداخل عن طريق الإقناع بالحجة والبرهان، فالقلب هو الذي بيده أمر الجوارح التي تقترف بها المعاصي وترتكب بها الجرائم وكما جاء في الحديث: «في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»(3)، فإذا أمسك بزمام القلب فقد تم الإمساك أيضاً بزمام الجوارح، لكن كيف تم للإسلام الإمساك بزمام القلوب؟
لقد تم للإسلام ذلك عن طريق ربطه بالإيمان بالله تعالى لأن الإيمان عملية ضرورية وقوة خلاقة  تحمل الناس على العمل والالتزام، ولم ينكر أحد هذا الدور للإيمان حتى الملحدون أنفسهم وفي هذا المعنى يقول الشيخ يوسف القرضاوي: ولقد رأينا من المفكرين والفلاسفة من لا يؤمنون بالله ولكنهم يؤمنون بالإيمان بالله - أي يعتقدون بنفع هذا الإيمان - باعتباره قوة هادية موجهة، وقوة مؤثرة دافعة، وقوة منشئة خلاقة، لم يستطع هؤلاء أن يجحدوا ما للإيمان بالله من طيب الأثر فـي نفس الفرد وفي حياة المجتمع(4).
ويقوم الإيمان في الإسلام على ستة أركان ولكلٍ دوره في التأثير على الفرد، فعندما يؤمن الفرد بالله وما له من صفات كالسمع والبصر؛ يشعر ويعلم أنه مراقب في كل مكان وفي كل زمان وتتولد عنده رقابة ذاتية وهي أهم بكثير من رقابة الغير الذين يجوز عليهم الغفلة والنسيان وغير ذلك من النقائص، وعندما يؤمن بالملائكة وخصائصهم وطبيعة وظائفهم يعلم أن كل ما يقوله أو يفعله يسجلونه عليه فيدفعه ذلك إلى اجتناب ما قد يسجل عليه ومنها الجرائم، وعندما يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب؛ يدفعه ذلك إلى اجتناب ما قد يحاسب عنه يومئذ، روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سمع يوماً امرأة غاب عنها زوجها في الجهاد تقول: 
تطاول هذا الليل واخضر جانبه    وأرقني إذ لا خليل ألاعــبه
فوا الله لولا الله لا شيء غـيره    لحرك من هذا السرير  جوانبه
وفي رواية أخرى ذكرت أبيات غير هذه آخرها هذا البيت:
ولكنني أخشى رقيباً موكلاً      بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
فسأل ابنته حفصة كم تحتاج المرأة إلى زوجها؟ قالت: في ستة أشهر، فكان لا يغزو جيش له أكثر من ستة أشهر(5).
وروى ابن القيم في الطرق الحكمية عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين متلطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط – أي يضطرب – في دمه، فسأله فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعاً، فقال: يا قوم، لا تعجلوا ردوه إلى علي، فردوه فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال علي للأول: ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقف وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة وخفت ألا يقبل مني، وأن يكون قسامة، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله. فقال علي: بئس ما صنعت فكيف كان حديثك؟ قال: إني رجل قصاب، خرجت إلى حانوتي في الغلس، فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول، فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره، فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي فأخذوني، فقال الناس: هذا قتل هذا، ما له قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه, فقال للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ فقال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس، فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق. فقال للحسن: ما الحكم في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين: إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالى﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾[المائدة: 32] فخلّى علي عنهما، وأخرجت دية القتيل من بيت المال(6).
فهذان المثالان فيهما إشارة واضحة إلى أثر الإيمان، ففي المثال الأول كان الإيمان باليوم الآخر وما فيه من العذاب مانعاً من جريمة الزنا، ونفس الإيمان هو الذي كان السبب في إحياء نفسين في المثال الثاني.
   ولم يكن الإيمان الذي دعا إليه الإسلام مجرد أقوال أو أفكار، بل ضبطه وحوّله إلى حقيقة واقعية عن طريق العبادات، وهي أقوال وأفعال تصقل النفوس وتربّيها حتى يكون تغيير القلب  مصحوباً بتغير في الجوارح كلها، والمتأمل في أنواع العبادات وحسن ترتيبها وتنويعها يدرك هذه الحقيقة، فالصلاة مثلاً وهي من أوائل وأهم العبادات المفروضة في الإسلام تتوزع على خمسة أوقات في اليوم وذلك يؤدي إلى المحافظة على تهذيب النفس وصفائها طوال اليوم، وقد كان لهذا التوزيع أثر كبير في صرف الناس عن شرب الخمر قبل تحريمها نهائياً وذلك عند نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾[النساء: 43], كما أن الصيام يعتبر مدرسة روحية لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس وإماتة نوازع الشر فيها قبل أن تتحول إلى حقيقة واقعة ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183]. وورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: «...والصيام جنة ..»(7).
   إن أكثر الجرائم التي تقع من المسلمين اليوم تقع في العادة من أناسٍ ضعيفي الإيمان، تاركي الصلاة والصيام، وهذا ما يلاحظه كل من أمعن النظر وأدام الاستقراء، فما أحوج أولي الأمر من المسلمين اليوم أن يهتموا بتقوية الإيمان وحمل الناس على الالتزام بالعبادات، لأن الجرائم تأتي في الحال الذي ينزل فيه  الإيمان إلى أدنى درجاته، ولذلك ورد في الحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن»(8)، وبالمقارنة بين إحصائيات الجرائم في كل من أمريكا وروسيا ومصر والعربية السعودية لاحظت أن أدنى نسبة سجلت في السعودية ثم تليها مصر ثم أمريكا التي تسرق فيها سيارة كل دقيقتين، وأعلى نسبة سجلت بروسيا، وهي نسب تتماشى مع مدى الالتزام الديني لا مع كثرة القوانين وكثرة رجال الشرطة وهذا الجانب على أهميته لا وجود له في التشريعات الوضعية الحديثة.
2- واجب الأسرة:
    الأبوان هما أساس تكوين الأسرة قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ﴾ [الأعراف: 189], ولا ينتهي دورهما بعد الإنجاب، ولا يعتقد هذا إلا من راقب البهائم وهي تترك صغارها بعد حين وقاس الإنسان عليها، ولا شك أن هذا قياس مع الفارق، لأن الله كرم ابن آدم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[الإسراء: 70]، أي فكما أنهما لا بد منهما لتكوين الجنين، فكذلك لا بد منهما لتربيته وتوجيهه، ولذلك جاء في الحديث: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء»(9),  لذلك نجد أن أكثر من تصدر عنهم الجرائم هم ممن فقدوا آباءهم لسبب من الأسباب، ولذلك كانت التربية هي مرحلة التكوين والتوجيه والتأسيس.
   وفيها يتعين وجوب التربية على الأبوين أساساً؛ لأن الإيمان والالتزام بالعبادات ومكارم الأخلاق لا ينشأ من فراغ بل هو يبدأ قبل ولادة الإنسان ويستمر إلى وقت البلوغ، واهتمام الإسلام بهذا الجانب يبدأ من وقت اختيار الزوجة المنتظر أن تكون أول مدرسة يتعلم فيها الطفل، ولذلك حض الإسلام على الزواج بالمسلمات، ودعا إلى اختيار ذوات الدين منهن، وحث على الاهتمام بالتربية، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[التحريم: 6] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: « لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا دخل الجنة»(10), وقد أعطى النبي عليه الصلاة والسلام توجيهات تطبيقية لكيفية تربية الأبناء من خلال منهج عملي متكامل يتمثل في سيرته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وأولاده وأصحابه والناس جميعا ًكبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم سيدهم ووضيعهم، فكان منهجاً عملياً استقى ويستقي منه المؤمنون الصادقون طريقة تعاملهم وطريقة معيشتهم منه إلى يوم القيامة.
كما أعطاهم المنهاج الذي يجب إتباعه في حملهم على تكاليف الدين وأخلاقه فقال: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع»(11), ونبههم إلى أن الأولاد يتعلمون بالقدوة بما يعني واجبهم في الالتزام أمام أبنائهم، ولقد آتت هذه التربية أكلها فانخفضت نسبة الإجرام في زمن التابعين – وهم أبناء الصحابة – انخفاضاً كبيراً.
     وقد أنشأ المسلمون بعد ذلك ما يعرف بالحسبة والمحتسب، ووظيفة المحتسب هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه.
3- واجب الأسرة الكبيرة (العاقلة):
العاقلة جزء لا يتجزأ من مهمة رعاية وتوجيه الفرد، فإذا كان الأبوان قد فقدا أو فقد أحدهما وحصل بسبب ذلك خلل في تربية وتوجيه الأبناء ولاشك فإن الله سبحانه ومن حكمته أن هيأ لذلك الفرد من يرعاه ويوجهه إلى سبيل النجاة والفلاح والاستقامة؛ تلك هي العاقلة لأن العاقلة هم أقارب الشخص من جهة أبيه، وقد حملهم الإسلام جزء من تربية الأولاد، ويتضح ذلك من خلال ما فرضه الإسلام في دية القتل الخطأ ودية القتل شبه العمد التي يجب أن تشترك في أدائها العاقلة مع القاتل، وهذا خلاف للقاعدة القرآنية التي تجعل المسؤولية على إطلاقها سواء كانت مدنية أو جزائية مقصورة على القاتل وذلك بنص قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[الأنعام: 164] ومفاد ذلك أن أقارب الرجل من جهة أبيه مدعوون لمراقبة أبناء بعضهم بعضاً حتى لا يجدون أنفسهم يوماً مضطرين للتعويض عما لم يقترفوه، وهذا يؤدي بهم حتماً إلى التعاون في التربية، وهذا من شأنه أن يعوض عن النقص الذي يشوب عمل بعض الأولياء في تربية أبنائهم، فيعودونهم على التزام الحيطة والحذر، فضلاً عن الانحراف، وموضوع العاقلة لا يوجد له نظير في التشريعات الحديثة.
4 - واجب الجيران والرفاق:
لا شك أن للجيران والرفاق والأصدقاء مهمة لا تكاد تكون صغيرة إذا ما علمنا أن الإنسان يقضي حياته وهو بين جيرانه وبين رفاقه وأصدقائه، ولذلك نجد أن الإسلام حث على رعاية الجار بل واختيار الجار قبل ذلك وقد جاء في الحديث: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»(12)، وقال r: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل ومن يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»(13), وعن عبد الله قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: « أن تجعل لله ندا وهو خلقك » . قلت: إن ذلك لعظيم, قلت: ثم أي ؟ قال: « وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك »  قلت: ثم أي ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»(14)، والشاهد في الحديث الأخير هو عظم الذنب الذي يرتكبه الإنسان في حق جاره، وإن كان في غير الجار الأمر عظيم ولكن مع الجار الأمر أعظم لما للجار من حق أوجبه الله يعود عليك بالخير والمنفعة؛ لأنك إذا كنت تعامل جارك بالحسنى لا شك أن جارك سيبادلك الإحسان وبالتالي يكون المجتمع بوتقة تنصهر فيها معاني الخير ويتبخر منها خبث الشر وغازات الفساد ويبقى ما ينفع الناس، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾[ الرعد: 17]، ومن هنا تضمحل الجريمة وتتلاشى لأن الإسلام حمّل جيران الجاني أو رفاقه جزءاً من المسؤولية فيما يرتكب من جرائم على أرضهم أو في محالهم وذلك من خلال تشريع القسامة التي اعتبرها العلماء أصلاً من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد أخذ بها كافة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم(15), وأصل القسامة أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فلما جاء أهله إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لهم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ...»(16), ولا شك أن هذا يؤدي إلى التضامن في الحيطة والمراقبة والتفقد، وهذا يعسر على الجاني ارتكاب جريمة القتل خاصة، وفي الوقت ذاته فإنه يدعو إلى التثبت في الشهادة بما يكفل الأمان من الخطأ في حق المتهم، ولذلك فإن القسامة تؤدي دوراً مزدوجاً في شأن مكافحة الجريمة الأول يتعلق بالقاتل الذي يعلم أن ارتكابه للجريمة يترتب عليه  -إن لم يكشف عنه- توريطاً للمحلة كلها مما يدعو إلى المزيد من التحري وذلك يؤدي في العادة إلى الكشف عنه فيحجم على ما أراد فعله، والثاني يتعلق بالأولياء الذين تمنعهم القسامة من اتهام بغير يقين، فأين نحن اليوم من هذا التشريع وقد أصبحت الجرائم ترتكب وليس هناك ما يجبر مشاهديها المفترضين على الإدلاء بشهاداتهم. ثم إن قيمة الأيمان التي تتضمنها القسامة لا تنفع ما لم يكن أصحابها ممن يعرف قيمة هذه الأيمان وما يترتب على الكذب بها، ولا يكون ذلك إلا في مجتمع مؤمن يتقي الله ويخشى عذابه، ولذلك رفض أولياء عبد الله بن سهل أيمان اليهود في القسامة، واضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن وداه. وكأن القسامة شرعت عقاباً لمن وجد القتيل بينهم بسبب تقصيرهم في منع الجريمة، أو في الكشف عن القاتل، ويقول الكاساني في بيان السبب في وجود القسامة: سبب وجوبها هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجبت عليه النصرة والحفظ، فلما لم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصراً بترك الحفظ الواجب، فيؤاخذ بالتقصير، زجراً عن ذلك، وحملاً على تحصيل الواجب، وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية، لأنه أولى بالحفظ، فكان التقصير منه أبلغ، ولأنه إذا اختص بالموضع ملكاً أو يداً بالتصرف، كانت منفعته له، فكانت النصرة عليـه، إذ الخراج بالضمـان كما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم(17).   
    وقال تبارك وتعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[البقرة: 286], ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد، أو جماعة إما بالملك أو باليد، وهو التصرف فيه، فيتهمون بالقتل، فالشرع ألزمهم بالقسامة دفعاً للتهمة، والدية لوجود القتيل بينهم، وإلى هذا المعنى أشار عمر رضي الله عنه حينما قيل له: أنبذل أيماننا وأموالنا؟ فقال رضي الله عنه: أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين ظهرانيكم(18).
5- واجب المجتمع:
المجتمع هو مجموعة أسر مترابطة تجمعها أعراف وتقاليد معينة، وتربطها علاقات، وتعيش على أرض، ومن هنا كان المجتمع حصيلة تلك الأسر مجتمعة، فإذا كان الحديث عن الأسرة الصغيرة (البيت) والكبيرة (العاقلة) نواة الحديث عن المجتمع الكبير، كان لا بد من الإشارة إلى دور المجتمع في القضاء على الجريمة، ولذلك أشركت الشريعة الإسلامية المجتمع كله في الإصلاح عموماً بما في ذلك مكافحة الجريمة، ليؤدي المجتمع بذلك الدور الذي يعجز عنه الفرد مع نفسه أو الأسرة مع أفرادها، فالمجتمع لا يخلو من ضعاف النفوس والضمائر الذين لا ينتفعون بالإيمان والعبادات، كما أن فيه أولياء مهملين لتربية أبنائهم وتنشئتهم بما يقيهم المزالق المؤدية إلى الجريمة، فلم يبق لهؤلاء من حاجز يحول بينهم وبين ارتكاب الجريمة سوى المجتمع، والمجتمع الذي يريده الإسلام هو المجتمع الذي يسود فيه رأي عام فاضل، لا يظهر فيه الشر ويكون فيه الخير بيّناً واضحاً معلناً، ولذلك دعت الشريعة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبر الإسلام البريء مسئولا عن السقيم إن رأى فيه اعوجاجاً وكان قادراً على تقويمه فعليه أن يفعل، وأن يقومه بلسانه وهدايته ودعوته إلى الخير من غير عنف ولا غلظة، بل يدعوه بالتي هي أحسن ...(19).
وقد أوجب الإسلام تغيير المنكر على كل أفراد المجتمع، كل حسب طاقته، وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، يدل على الوجوب قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[التوبة: 71]، وورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»(20), وقد ربط الإسلام هذا الواجب بحقيقة المسلم الكبرى وهي الإيمان، وهي أكثر حثاً للمؤمن على الفعل من العقاب، والكثير من الفتن القائمة اليوم في بعض البلاد الإسلامية سببها وجود منكرات شرعية يحميها القانون وذلك يتعارض بوضوح مع واجب تغيير المنكر الذي يستشعره المؤمن، بينما لا نجد ذلك عند غير المسلمين، فحتى ولو وجدت عندهم منكرات اجتماعية أو عقائدية فليس عندهم ما يدفع إلى تغييرها وإزالتها كما هو الشأن في الإسلام, ولم يكتف الإسلام بهذا الأمر العام لكل الناس، بل أمر القرآن نفسه بإنشاء جماعة مكلفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بنص قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 104].
وقد أنشأ المسلمون بعد ذلك ما يعرف بالحسبة والمحتسب، ووظيفة المحتسب هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه(21).
إن دور المجتمع بصفة عامة والمحتسب بصفة خاصة هو دور وقائي لا يمنع وقوع الجرائم فحسب بل يمنع أيضاً ما لا يرقى إلى مستوى الجرائم من مختلف المنكرات التي كثيراً ما تكون نهايتها جرائم، فكم من منكر صغير يتحول اليوم إلى جريمة كبيرة، فرب معاكسة شاب لفتاة تنتهي إلى جريمتين، جريمة الزنا وجريمة القتل، وقد أثبتت الإحصائيات أن نسبة هامة من جرائم القتل كان سببها الانتقام للشرف، كما أن ترك الأمر بالمعروف كثيراً ما يؤدي هو الآخر إلى الجريمة، وكثير من الجرائم يرتكبها أصحابها بدافع من الشعور بالظلم، فلو كان هناك من أمر بالعدل والإحسان ما وقع كل ذلك.
6- الدور التشريعي:
ولا يخفى بعد هذا ما للدور التشريعي من أهمية قصوى في القضاء على الجريمة، بل إن التشريع هو رأس الأمر وهو مناط التكليف، وبدونه يصير الناس كالبهائم يتبع الضعيف فيهم القوي وتصير شريعة الغاب هي الغالبة، فيضيع الحق، ويصير أتباعها من أصحاب الأهواء الذين لا يفلحون، قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]، ولذلك أنزل الله الكتاب وحفظه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وليكون التشريع الرباني هو المصدر الذي يسير عليه الخلق وليكون دورهم السمع والطاعة لمنهج خالقهم.
   ويتجلى دورهم في اتباع النصوص التشريعية الواردة في القرآن والسنة، وكذلك فيما اتخذه الخلفاء الراشدون بعد ذلك من قرارات أو ما نطقوا به من أقوال في هذا المجال، ولن نتحدث في الأسلوب الوقائي عن النصوص التي تتناول العقاب نوعاً ومقداراً لأن هذا لا ينفذ إلا بعد ارتكاب الجريمة وسنراه في الأسلوب العلاجي، وإنما نتحدث هنا عما وضعته النصوص لمنع وقوع الجريمة، وذلك هو ما يطلق عليه (سد الذرائع)، حيث حرم الإسلام بعض السلوكيات لا لذاتها وإنما لما تفضي إليه من جرائم مثل النهي عن سب الكافرين لئلا يؤدي ذلك إلى سب الخالق  عز وجل  قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108], وفي السياق ذاته جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم للرجل أن يلعن والديه، فلما قالوا : كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : «يسب الرجل أبا الرجل فيسب  أباه ويسب أمه»(22)، فالوقاية من سب الأب تبدأ من عدم سب آباء الآخرين، وفي مجال الجريمة نجد نصوصاً متعددة تمنع من أمور ليست جرائم في ذاتها ولكن التمادي فيها عادة ما ينتهي إلى جرائم ومن ذلك الأمر بغض البصر، والنهي عن التبرج لأن ذلك غالباً ما يؤدي إلى جريمة الزنى، وهذه الجريمة تؤدي إلى الإجهاض والقتل، ومثال ذلك أيضاً النهي عن إشارة الرجل على أخيه بالسلاح لأنها ذريعة إلى الإيذاء، حيث ورد في الحديث: « لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار»(23), وفي هذا المعنى جاء النهي عن تعاطي السيف مسلولاً فقد يخطئ المعطي أو الآخذ فيصاب أحدهما أو غيرهما بالأذى، وفي مناولته في قرابه سد لهذه الذريعة(24).
   ومن ذلك أيضاً نجد حديث: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»(25)؛ لأن وجود خليفتين في وقت واحد مدعاة إلى الشقاق والاختلاف والفتنة والحرب وضياع نفوس كثيرة, كما أن الإسلام قد نهى عن بيع السلاح في وقت الفتنة لأن ذلك معين لها ومشجع عليها.
   وعن الشعبي قال : بينما عمر يعس بالمدينة إذ مر بامرأة في بيت وهي تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها       أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
وكان نصر بن حجاج رجلاً جميلاً. فقال عمر: أما والله وأنا حي فلا، فلما أصبح بعث إلى نصر بن حجاج فقال له: اخرج من المدينة فالحق بالبصرة، وفي رواية أنه جز شعره فازداد جمالاً فأمره أن يعتم فظل كذلك ثم نفاه إلى البصرة، ولفساد فيه نفاه والي البصرة أبو موسى الأشعري إلى فارس، وعاود الكرة هناك فأراد أن ينفيه واليها عثمان بن أبي العاص الثقفي أيضاً، فهدد أن يلحق ببلاد الشرك، فكتبوا إلى عمر، فكتب إليهم عمر أن جزوا شعره، وشمروا قميصه، وألزموه المسجد(26). 
وقال الإمام علي لما سئل عن عقوبة شارب الخمر: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة(27). وإذا كان التشريع القرآني قد أخذ بسد الذرائع ورأينا العلة من ذلك فإن التشريعات الحديثة قد سلكت مسلكاً غريباً حيث تبيح الفعل وتعاقب على ما ينتج عنه، فهي تبيح الزنا مثلاً ثم تعاقب على الإجهاض.
ثانياً: الأسلوب العلاجي:
   يبقى الإنسان بشراً معرضاً للخلل والزلل والخطأ، ولذلك جاء الإسلام بعلاج كل خطأ بما يناسبه ويضع له الحل الأمثل، حتى لا تعم الفوضى وحتى لا يبقى الناس حيارى، ماذا يفعلون، ومن يتبعون، وأي قانون يطبقون!!! فوحدهم الله على منهاج واحد، وشريعة ربانية خالدة وتشريع إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولذلك يأتي الأسلوب العلاجي بعد وقوع الجريمة، وهذا الأسلوب واضح المعالم في الشريعة الإسلامية، فلا غموض فيه ولا اختلاف بشأنه، والهدف منه منع تكرار الجريمة التي وقعت وإصلاح ما خلفته من أضرار، ويتضمن هذا الأسلوب العقاب وبدائله كالدية والصلح والعفو بالإضافة إلى الكفارة.
1 – العقـاب: لا خلاف بين المسلمين جميعاً حول العقاب، لا في مشروعيته ولا في أنواعه، وهذا بخلاف الأمر اليوم في القوانين الحديثة، التي اختلفت في العقاب  اختلافاً كبيراً بين داعٍ إلى إلغائه -حتى دعا بعضهم إلى تغيير تسمية قانون العقوبات- ومدافعٍ عن بقائه، وهؤلاء المدافعين  اختلفوا في أنواع العقوبات وخاصة عقوبة الإعدام، كما اختلفوا حتى في العقوبات السالبة للحرية والبدائل المطروحة، أما العقاب في الإسلام فهو من المبادئ التي لا يمكن حتى مجرد التفكير في إلغائها، و يمتاز العقاب في الإسلام عنه في القوانين الوضعية الحديثة بعدة مميزات، كل منها له دوره الفعال في مكافحة الجريمة، ومن هذه المميزات ما يأتي:
أ- أنه جمع بين العدل والرحمة، والجمع بينهما ليس من السهولة بمكان، ففي الوقت الذي غلبت القوانين الحديثة منطق الرحمة اعتماداً على العبارة المشهورة (العدل فوق القانون والرحمة فوق العدل) وأصبح اهتمامها منصباً على الجاني وحده فتتحدث عن سلوكه الإجرامي، وطبيعة فعله، فاعل أصلي أم شريك، وظروفه وأعذاره دون أدنى اهتمام بالمجني عليه، في توجه واضح ضد العدل، واعتماد مفضوح على الإحساس دون العقل، حتى قال جيرمي بنتام: وإنّا لنعجب كل العجب من حال قوم سخفاء العقول يريدون أن يجعلوا من إحساسهم قانوناً للناس، ويدعون أنهم من الخطأ معصومون لأن أصلهم الذي ركنوا إليه وسموه وجداناً ليس عقلياً بل العقل يأباه كل الإباء(28).
وبالتالي فإن العقاب المطبق لا يعود على المجني عليه أو وليه بأي فائدة ولا بأي إحساس، وهذا ناشئ عن إذابة  حق الفرد في حق الدولة والمجتمع، أما الإسلام فإنه أبقى على حق الفرد وكيانه مستقلاً عن الدولة، وأخذ بالعدل ولكنه لم يهمل الرحمة، والعدل يقتضي أن من أجرم يعاقب، وفي هذا رحمة عامة بالمجتمع كله، كما أنه أبقى هامشاً للرحمة الخاصة ولكنها في إطار العدل، وذلك حين خير  المجني عليه أو وليه بعقاب المجرم أو التصالح معه أو العفو عنه ورغب في العفو، قال تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾[البقرة: 178].
والرحمة التي أقرها الإسلام موزعة بين الجاني والمجني عليه، فأين هذا من العفو الذي يصدره حكام اليوم على القتلة والمجرمين، وحتى لو حكم على القاتل بالإعدام فإن هذه العقوبة لا تكاد تطبق، ويذكر  الدكتور أبو المعاطي أن المحاكم في مصر أصدرت سنة 1971 عقوبة واحدة بالإعدام وكان عدد جنايات القتل في ذلك العام 1611 بين قتل وضرب أدى إلى الموت، وفي عام 1970 لم تصدر المحاكم عقوبات بالإعدام إطلاقاً، وكان عدد جرائم القتل 1562 جريمة(29).
     وفي الجزائر أوقف تنفيذ حكم الإعدام منذ عام 1994، وهناك اليوم دول كثيرة ألغت حكم الإعدام فلا تحكم به إطلاقاً مثل دول الاتحاد الأوربي، وهذا يجعل المجني عليه أو وليه يشعر بالظلم من جهة، ويزيد المجرم عتواً و إجراماً من جهة أخرى، و الإفراط في الرحمة بالجاني جعل الجرائم تكثر وتنتشر بشكل رهيب، فرغم الدراسات والمؤتمرات التي تعقد الآن من أجل مكافحة الجريمة لم تستطع أن تسهم إلا  في زيادتها نظراً للاقتراحات التي تقدمها بشأن مراعاة الإنسانية عند التعامل مع المجرمين الخطرين.
ب- كما لا تفرق العقوبات في الشريعة الإسلامية بين حاكم ومحكوم، ولا بين شريف ووضيع، إذ أن كل الناس أمام العقاب سواء، لا فرق بين رئيس الدولة وأضعف إنسان فيها، فعن أبي فراس  قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلي أقصه منه،فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقصه منه ؟ فقال: إي والذي نفسي بيده أقصه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه(30)، والأمثلة على هذا في تاريخ الإسلام كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال حديث المرأة المخزومية الشهير(31)، (32) وحكم عمر على جبلة بن الأيهم  الذي لطم رجلاً من فزاره وأمر عمر بالقصاص منه، وفعل عمر مع عمرو ابن العاص والي مصر وابنه الذي ضرب ابن القبطي(33)، وبمثل هذه الأحكام وميزاتها يكون القضاء على ظلم الحكام والمسئولين .
   ولا نجد مثل هذه المساواة في القوانين العقابية الحديثة بل إن تمييز بعض المسئولين أصبح أمراً مقنناً تحت ما يسمى بالحصانة، سواء كانت دبلوماسية أو برلمانية، ومن شأن هذه الحصانة أن تدفع إلى الإجرام لأن المتمتع بها لا يخشى ما يخشاه سائر الناس من خوف من العقاب، وهذا ما لاحظناه  بالنسبة لبعض المتمتعين بالحصانة، فهذا يخرج مسدسه لأتفه سبب ويهدد بالقتل، وذاك أطلق النار على من كان له معه خلاف، وذلك أنقذته من المحاكمة بفرنسا حصانة دبلوماسية، وكل ما ارتكبه هؤلاء ما كان ليحدث لو كانت هناك مساواة بين كل الناس.
ج- كما يمتاز بأنه يحقق الردع ويجبر خاطر المجني عليه أو وليه، وهذان العنصران ضروريان جداً في العقاب، فأما الردع ويقصد به أن العقوبة عندما توقع على مجرم معين تصرفه عن العودة إلى هذه الجريمة، وهذا هو الردع الخاص، كما تصرف غيره عن فعل مثلها، وهذا هو الردع العام، وكل عقوبة لا تحقق الردع بنوعيه فهي لغو ضررها أكبر من نفعها، والعرب في الجاهلية كانوا يراعون هذا الهدف، فعندما كانوا يقتلون القاتل يقولون: (القتل أنفى للقتل) فقتله يمنع الثأر وما ينجر عنه، ويمنع باقي الناس من القتل، والذي يتأمل في العقوبات الشرعية  يلاحظ بوضوح هذه الخاصية، فالذي يسرق مثلاً وتقطع يده، فإن مظهر يده المقطوعة أكبر رادع بحيث تذكره هو وتذكر غيره بعقاب السرقة فيتحاشونها، ونفس الشيء يقال عن عقوبة الزنا، ويفهم الردع جيداً في قوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النور: 2], وأما القانون الوضعي فلا يعطي هذه الخاصية, ودليل ذلك كثرة العود في ارتكاب الجريمة الواحدة نظراً لتفاهة العقوبة، وأما الجبر فيقصد به عمل شيء ما، يرضي الأولياء، ويواسيهم جراء ما وقع عليهم، وله أهمية أوسع وأبلغ من أهمية الردع، ذلك أن الردع قد يمنع المجرم من العود، كما يمنع بعض الناس من الجريمة، أما الجبر فإنه إذا لم يراع فإنه يؤدي بالتأكيد إلى وقوع جرائم أخرى من قبل أولياء المجني عليه أو خصومهم، فهناك غريزة فطرية في الإنسان وهي غريزة الانتقام فلا بد من إخراجها وإفراغها من نفوس الأولياء بشكل منظم وتحت إشراف الدولة، فإن لم نفعل وقع أحد أمرين، فإما أن تخرج بشكل غير منظم بعيداً عن القانون، وقد يكون إخراجها فظيعاً، بعيداً عن العدل، ويمكن أن تنجم عنها جرائم جديدة، وإما ألا تخرج وتبقى حبيسة في الباطن تحرق القلب وتعذبه باستمرار، وقد تؤدي إلى اضطرابات نفسية .
   والمتأمل في العقوبات التي جاء بها الإسلام يلاحظ لأول وهلة فعاليتها في مكافحة الجريمة، بسبب تحقيقها للردع والزجر والجبر، فالقصاص الذي يطبق في الجرائم العمدية سواء كانت قتلاً أو جرحاً أو ضرباً يمنع الجاني بلا شك من العود كما يمنع غيره من أن يسلك سبيله، فالذي يسعى لقتل غيره يعلم أنه يسعى أيضاً إلى قتل نفسه، ولا نجد شخصاً سوياً يسعى لقتل نفسه أو قطع بعض أطرافه، وهذه العقوبة التي يفعل فيها بالجاني المتعمد مثل ما فعل ما لم يكون تعذيباً من أعدل العقوبات، وأكثرها تحقيقاً للردع والزجر والجبر أيضاً، وفي هذا يقول الأستاذ عبد القادر عودة: وليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص فهي أعدل العقوبات إذ لا يجازى المجرم إلا بمثل فعله، وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالباً والذي يدفع المجرم بصفة عامة إلى القتل والجرح هو تنازع البقاء، وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته(34), وإلى جانب عقوبة القصاص التي تطبق في الجرائم العمدية التي يمكن فيها المماثلة ولم يكن فيها عفو من جانب الأولياء نجد العقاب بالجلد على الجرائم الحدية كما هو الحال في القذف والزنى لغير المحصن والسكر، وهذه العقوبة تنطوي على فوائد متعددة فهي تحقق الردع والزجر كونها تطبق أمام الناس، كما أنها لا تفوت على الجاني المعاقب القيام بمصالحه ومصالح أسرته بخلاف عقوبة السجن المطبقة اليوم التي توفر للجاني فرصة أفضل للتكوين الإجرامي بمخالطته لمجرمين آخرين داخل السجن، إضافة إلى الإهمال الذي يصيب الأسرة ويؤدي بأولاده في غيابه إلى سلوك سبيله، ومن أجل هذه السلبية التي تتصف بها عقوبة السجن تعالت الأصوات في المؤتمرات الدولية تنادي بإلغاء العقوبات السالبة للحرية، وضرورة إيجاد بدائل لها، ومن ذلك المؤتمر السادس لعلم الإجرام الذي انعقد عام 1980م في كراكاس بفنزويلا الذي نوقشت فيه عيوب العقوبات السالبة للحرية، وأجمعت الآراء على جعل هذه العقوبة استثناء وعدم التوسع فيها.
   وكما يتحقق الزجر بالعقوبات البدنية التي ذكرنا بعضها لأننا لم نتحدث عن القطع والرجم والتعزير، يتحقق أيضاً مع الجبر حين العقاب بالدية في الجرائم التي تعذر فيها تطبيق القصاص سواء في الجرائم الواقعة على النفس أو على الأطراف، وحتى حق العفو الذي منحه الإسلام للمعني بالضرر شخصياً ولم يمنحه للحكام كما هو حال القوانين اليوم يحقق الردع والجبر، فالمجني عليه عندما يشعر أن أمر الجاني متعلق بمشيئته في العقاب أو العفو تستكن نفسه وتطيب، فإذا عفا وهو أعلم بمن يستحق العفو، فإن عفوه يشكل في الحقيقة عقوبة نفسية للجاني الذي عفا عنه على نحو قول المتنبي:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم          ومن لك بالحر الذي يحفظ اليد
وهذا العفو مقصور على الجرائم التي تمس حق الفرد أو أن حقه فيها هو الغالب أما التي تمس حق المجتمع فلا عفو فيها، ومن الملاحظ اليوم أن عفو الحاكم  عن المجرمين في المناسبات والأعياد أصبح من أسباب انتشار الجريمة، يدل على ذلك موجة الإجرام التي نلاحظها بعد كل إفراج عن المحكوم عليهم .
2- الكفــارة: الكفارة عقوبة أيضاً، ولكنها تختلف عما سبق من عقوبات وهي تتعلق بجرائم القتل وغيرها كالظهار والحنث والجماع في نهار رمضان، ووجه اختلافها عما تقدم ذكره من عقوبات أن تنفيذها ذاتي موكول إلى الجاني نفسه فلا القاضي ولا الحاكم يمكنه أن يلزمه بها، ولذلك فهي مرتبطة بإيمان الجاني ليستدرك ما فاته بارتكابه للجريمة، وهذه الكفارة من شأنها أن تمحو الإثم الذي اقترفه، ومشروعيتها فيها ربط واضح للفرد بالإيمان بالله واليوم الآخر وتذكير بذلك بعد النسيان أو الإهمال الذي أصابه أثناء ارتكاب الجريمة. 
قلة تكاليف وسلبيات التشريع القرآني:
ذكرنا في بداية حديثنا أن من مميزات التشريع الصحيح أن يكون قد تحقق بأقل ما يمكن من التكاليف، وقلة هذه التكاليف في التشريع الإسلامي تدرك جيداً عندما نقارنها بما يقابلها اليوم في التشريعات الحديثة سواء على المستوى العالمي أو الدولي أو حتى المحلي، فعلى المستوى العالمي أنشئت اليوم مؤسسات دولية هدفها مكافحة الجريمة على غرار الشرطة الدولية، ومحاكم الإجرام الدولية، ناهيك عن المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك للغرض ذاته، ولا يمكن تصور ما تحتاج إليه هذه الإجراءات من نفقات، ومقابل ذلك  لا يشعر العالم بأدنى تحسن في مجال مكافحة الجريمة، بل لعل بعض الاقتراحات التي ما فتئ يقدمها بعض المختصين في الإجرام قد ساهمت إلى حد ما في استفحال الظاهرة الإجرامية، ثم إن الكثير من المبادئ لم يحصل بشأنها اتفاق، مثل تعريف الجريمة، والإرهاب وغيرها.
وأما على المستوى الدولي ولنأخذ الجزائر على سبيل المثال لنلاحظ تكاليف مكافحة الجريمة، فماذا نجد؟ إننا نجد وزارتين على الأقل في خدمة مكافحة الجريمة هما وزارتا السجون والعدل، بالإضافة إلى الهياكل الإدارية التابعة لكل واحدة منهما في مختلف الولايات كالمحاكم والسجون وما فيهما من موظفين ومساجين، ففي سجن يتسع لـ650 سجيناً نجد 250 من الموظفين أي ما يعادل موظف واحد لكل سجينين أو ثلاثة، وإذا قرأنا الرقم بشكل آخر فنقول بأن هذا السجن يضم في الحقيقة 900 فرد، وإذا حسبنا نفقات صيانة السجن وحاجيات المقيمين فيه من مساجين وحراس، بالإضافة إلى نفقات المحاكم والوزارات وحتى الشعب المختصة بالتشريع نجد أرقاماً خيالية، وبتعبير آخر فإن تكاليف مكافحة الجريمة من وقت التشريع إلى وقت التنفيذ مروراً بمرحلة القضاء لا تتناسب بتاتاً مع نتائج المكافحة ففي ولاية عنابة على سبيل المثال سجلت مصالح الأمن ارتكاب أكثر من 2500 جريمة خلال ثلاثة أشهر(35)، وهي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2003، وهذا الرقم يعني أن هناك أكثر من 27 جريمة ترتكب في اليوم، وهذا في فصل الشتاء الذي عادة ما تقل فيه الجرائم .
وأما السلبيات التي تخلفها عملية المكافحة فهي ترتبط بصفة أساسية بعقوبة السجن التي لا يكاد يعرفها الإسلام وهي التي تطبق اليوم على نطاق واسع على الرغم من أن بعض العلماء في مؤتمر كاراكاس  عام 1980 قد نادوا بعدم التوسع فيها، واقترح بعضهم عقوبات بديلة مثل الجلد، وسلبيات هذه العقوبة اليوم نلخصها في النقاط التالية:
1-أن السجن في حد ذاته لا يشكل عقوبة رادعة؛ لأن من شأن العقوبة الرادعة الألم، وأن تنفذ أمام الناس لكن هل يسبب السجن اليوم ألماً؟ قال الله حاكياً مقال يوسف عليه السلام: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾[يوسف: 33] وقال سبحانه حاكياً مقال امرأة العزيز لزوجها: ﴿مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[يوسف: 25] مما يدل على أن السجن شيء والألم شيء آخر، في سجون كانت تفتقر بكثير إلى ما هو متوفر فيها اليوم، بل يمكن الجزم أن بعض السجون تتوفر على مرافق لا تتوفر في البيت أو البيئة التي يحيا فيها المجرم، مما يجعل السجن يغوي بالإجرام لا مانعاً منه، فقد جاء في التقرير الذي تقدمت به هيئة سجن مصر إلى مؤتمر جنيف عام 1955 ما نصه: حتى جاءت الثورة المصرية عام 1952، وانقلبت الجمهورية المصرية بأسرها إلى مجموعة من النهضات المتباينة في مختلف الشؤون، نالت السجون المصرية حظاً وفيراً منها، إذ تحسن الغذاء والكساء، وأنشئت الكانتينات، وأبيح التدخين، وأدخلت إذاعات الراديو، وعرض الأفلام السينمائية، والألعاب الرياضية، والتمثيل، وسهلت الزيارات، والمراسلات، وأنشئت المكتبات، وألغيت المراقبة الإدارية، ونتيجة هذه الإصلاحات أوجزها كمال دسوقي حين نقل عن صحف الصحاح الصادرة بتاريخ 18/09/1957 قصة السجين الذي تعمد لدى خروجه خنق أول طفل يصادفه وتسليم نفسه ليعود إلى السجن(36).
   وأما في الجزائر فكثيراً ما يلقى القبض مساءاً على من أطلق سراحه في الصباح، وكم من متشرد ارتكب جريمة وليس له من غرض إلا الحصول على مأوى .
2 – أن عقوبة السجن تفوت على من عوقب بها الكثير من المصالح، فإذا كان عاملاً فقد عمله، وإذا كان طالباً فاتته دراسته، وإذا كان تاجراً كسدت تجارته، ناهيك عن الآثار المتعلقة بأولاده وأسرته، ويفقد العقاب صفة التفريد التي نادى بها علماء الإجرام، فيحرم الأولاد من عاطفة الأبوة وتفقد الزوجة أهم حقوقها الزوجية، وعندما يخرج من السجن يجد أسرته قد شردت وأولاده قد سلكوا سبيله .
3 – إن الواقع اليوم يجعل السجن يساهم في الفساد أكثر من الإصلاح، بل يمكن أن يؤدي دور مدرسة في تعليم فنيات الإجرام بسبب الجمع فيه بين فئات مختلفة من المجرمين، وكل واحد يمكن أن يتعلم من غيره، فالسارق البسيط قد يتحول إلى لص محترف، والذي انكشف أثناء ارتكاب الجريمة أو بعدها، يتعلم كيف يخفي آثار إجرامه، هذا بالإضافة إلى أن الحجز في السجن لمدة طويلة يجعل السجين يخرج وهو متخلف حضورياً عن واقع المجتمع، ويكون تأقلمه بعد ذلك صعباً، كما قد يفوت عليه السجن مصالح كثيرة، فيخرج فيجد نفسه في حالة يأس، ولا يجد وسيلة للحاق بالمجتمع والتعويض عما أصابه إلا بسلوك سبيل الجريمة خصوصاً وأن المتابعة الإصلاحية منعدمة بعد الخروج  من السجن، ومن جهة ثالثة فإن السجين عندما يخرج من السجن يجد دون الاندماج في الناس سوراً عالياً من التحفظ والاحتياط، فكل الناس يحذرونه وكلهم يحتاطون من التعامل معه، ولن يجد من يطمئن إليه إلا من كان سجيناً مثله أو من كان يريد أن يتعلم منه صنعة الإجرام وفي كل الأحوال يؤدي به ذلك إلى سلوك طريق الجريمة .
إن التشريع القرآني قد تفادى جميع هذه السلبيات وغيرها ممن لم نذكره في هذا المقام، والعقوبات التي نص عليها لا تفوت على المعاقب بها حقاً ولا واجباً، فإذا عوقب بالجلد أو بالقصاص فيمكنه على إثرها مباشرة أن يلتحق بعمله وبأسرته دونما حاجة إلى بناء يضمه وحرس يقومون على خدمته، وفوق هذا كله فهو عقاب رادع زاجر جابر مكفر عن الإثم الناتج عن الجرم. وهذه الأحكام التي نص عليها القرآن الكريم على سهولتها وبساطتها وقلة تكاليفها قد حققت من النتائج في وقت وجيز ما لم يحققه غيرها بإمكانيات ضخمة في وقت طويل مما يدل على إعجاز القرآن التشريعي في مكافحة الجريمة.
مميزات التشريع الإسلامي:
لابد لكل تشريع من مميزات تميزه وتساعد على بقائه ودوامه بين الناس راضين بعدالته ومطمئنين إلى حكمته وتمشيه مع مصالح الأفراد والجماعة، والشريعة الإسلامية بحمد الله لها مميزاتها الثابتة وخصائصها التي تجعل الناس تنقاد إليها عن قناعة وثقة لأنها تتفق مع الفطرة السليمة وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، وهي كما تشهد لها جميع الشواهد شريعة تخاطب العقول  السليمة وتحض على العمل وتدعو للجهاد في سبيل الله وتنادي بالتسامح والحرية والمساواة والبر والتقوى، ومن أهم مميزات الشريعة الإسلامية ما يأتي:
1. أنها شريعة سمحة لا تكلف الناس فوق طاقتهم لأن تكاليفها كلها ميسرة لا مشقة فيها في حدود استطاعة كل إنسان، ويقول الله سبحانه وتعالى في وصفها: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] كما يقول سبحانه: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
2. أنها جاءت شريعة عامة لا نظر فيها إلى حالات فردية أو جزئية أو شخصية.
3. أنها سنت للناس رخصاً عند الضرورة رفعاً للضرر ومنعاً للمشقة، فمثلاً فرضت الشريعة الصيام ولكنها رخصت بالفطر للمسافر والمريض وغير ذلك من الرخص.
4. قلة تكاليفها: لأنها اقتصرت على الأركان الخمسة وما يتصل بها.
5. التدرج في الأحكام: لأنها عالجت العادات الذميمة المتأصلة في النفوس بالتدرج في استئصالها شيئاً فشيئاً من غير تشديد ولا تعقيد في النهي عنها وتحريمها، فمثلاً في عادة شرب الخمر جاء الإسلام بالأحكام متدرجة في تحريمها بأسلوب حكيم لم يشعر الناس معه بغضاضة أو حرج أو مشقة.
6. مسايرة مصالح الناس: وذلك أنه شرع بعض الأحكام ثم نسخها إذا كان في ذلك المصلحة العامة كما حدث في بعض الأحكام الخاصة بالوصية وآيات المواريث، وكذلك تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بمكة المكرمة.
أهم المبادئ التي جاءت بها الشريعة الإسلامية:
جاءت الشريعة الإسلامية وهي تحمل في طياتها جملة من المبادئ، وهذه المبادئ إن دلت على شيء فإنما تدل على متانة بناء التشريع الإسلامي وقوة أركانه وصلاحيته للأحكام في كل زمان ومكان بين جميع الأجناس، ويدل على ذلك أن الأمة الإسلامية ازدهرت وقويت شوكتها حينما كانت تخضع في جميع شئونها للشرع الإسلامي، وأنها ضعفت وتفككت حينما انصرفت عن شريعته وجمد الفقهاء وركنوا إلى التقليد وحاولوا أن يخضعوا التشريع لأهوائهم وشهواتهم وأدى ذلك على الاستعانة بالقوانين الوضعية على اعتبار أن الفقه الإسلامي لم يعد يتفق مع التطورات العالمية وما تقتضيه المدنية الحديثة من مجاراة الدول القوية الغنية، ولعل من أهم هذه المبادئ:
1.  مبدأ التوحيد: فقد جمع الناس إله واحد، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾[آل عمران: 64]
2.  مبدأ الاتصال المباشر بالله دون وساطة فقال سبحانه تعالى : ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[غافر: 60] و قوله جل شأنه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[البقرة: 86].
3.  مبدأ التخاطب مع العقل: فالعقل مناط التكليف خصوصاً فيما يتعلق بأمور الدنيا وبمعرفة الخالق لقوله تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2] وقوله سبحانه: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾[البقرة: 44].
4.  مبدأ إحاطة العقيدة بالأخلاق الفاضلة لقوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾[الفرقان: 63].
5.  مبدأ التآخي بين الدين والدنيا في التشريع فقد جاءت أحكامه بأمور الدين والدنيا و دعا إليهما مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[القصص: 77].
6.  مبدأ المساواة والعدالة بين الناس جميعاً لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات: 13]
7.  مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو في الحقيقة دستور لجميع نواحي الإصلاح .
8.  مبدأ الشورى لقوله تعالى : ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، وقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].
9.  مبدأ التسامح، وهو من أسمى وأهم ما يعرف اليوم بمبدأ التعايش السلمي.
10.  مبدأ الحرية لقوله تعالى: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[البقرة: 256]
11.  مبدأ التكافل الاجتماعي فقد جعل الله الزكاة فيها حق الفقير في مال الغني وليست تفضلاً من الأغنياء على الفقراء(37).
وجه الإعجاز:
لا شك أنك قد اطلعت على محتويات هذا البحث، ورأيت الفرق بين القوانين الوضعية في مجال قوانين العقوبات التي وضعها البشر وبين منهج خالق البشر في نفس المجال، وقس على هذا كل القوانين وقارنها بما يقابلها من منهج رصين أنزله الله سبحانه علينا.
ولا شك أيضاً أنك قد اطلعت على مقدمة هذا البحث، وعلمت السر الذي عند العقلاء والذي يجعلهم ببساطة شديدة يقتفون أوامر خالقهم بدون جدال أو شك، فهم كما وصفهم ربهم مثنياً عليهم قائلاً: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51] فهم يسمعون القول فيتبعون أحسنه ويطيعون الأمر لأنه من الله الخالق فتكون عاقبتهم الفلاح في الدنيا والآخرة.
وبعد هذا فلا مجال لأن يكون لمناظر يريد الحق أن يطيل الجدل ويلح؛ لأن الحق أبلج والباطل لجلج والحق يعلو ولا يعلى عليه كيف لا والحق من عند الله، والباطل من الشيطان وأعوانه، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾ [يونس: 108]، ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة:15-16]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ [النساء: 174]، ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
إعداد: قسطاس إبراهيم النعيمي
 المصدر : جامعة الإيمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق